أشعل الحريق الضخم الذي اندلع في مرفأ بيروت أمس الخميس غضب اللبنانيين، وجدد مشاعر ذعر وهلع عاشوها في انفجار المرفأ يوم 4 أغسطس/آب الماضي، والذي تسبب حينها بدمار كبير في العاصمة، وأدى لمقتل نحو 191 شخصا وأكثر من 6500 جريح وعشرات المفقودين.
ورغم أنه لم يسقط ضحايا بسبب حريق 10 سبتمبر/أيلول الجاري فإنه جدد سخط اللبنانيين من سلطاتهم المحلية، ووصف كثيرون الحريق بـ"المريب" بعد نحو 40 يوما من الانفجار الهائل، فكان السؤال الجوهري: لماذا لم يتخذ المسؤولون إجراءات صارمة لتطويق المرفأ وحمايته من خطر المواد القابلة للاشتعال؟
عمليا، استغرق إخماد الحريق ساعات طويلة بجهود فوج الإطفاء والدفاع المدني وطوافات الجيش اللبناني، وأوضحت قيادة الجيش أن الحريق اندلع في مستودع للزيوت والإطارات بالسوق الحرة في المرفأ.
وكان مستغربا ما قاله مدير عام المرفأ بالتكليف باسم القيسي إنه بعد انفجار 4 أغسطس/آب قد تكون حصلت فوضى في عملية تخزين البضائع بسبب الحاجة إلى عمليات الترميم، مشيرا إلى أن الحريق وقع على أرض مستأجرة من شركة "بي بي سي لوجستيك" (bcc logistics)، وقد نتج إما عن احتدام الحرارة أو خطأ آخر.
فرضيات الخبراء والمحللين
وعقد المجلس الأعلى للدفاع في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون اجتماعا طارئا ليل الخميس، وتسربت منه معلومات للإعلام اللبناني عن احتمال أن يكون الحريق اندلع نتيجة عملية الصيانة لسقف إحدى الحاويات الموجودة في الأرض المستأجرة، فتطاير وابل من شرارات التلحيم داخل المستودع الذي يحتوي على مواد غذائية تابعة للصليب الأحمر، وزيوت لقوات اليونيفل، وأدوات تجميل.
وفيما سُرّب من الاجتماع أيضا احتمال أن يكون هناك 49 مستوعبا إضافيا تحتوي على مواد قابلة للاشتعال كان البحث الأبرز في أوساط الخبراء والمحللين بشأن الفرضية الأكثر ترجيحا بالسؤال: هل التهم الحريق الأدلة في مسرح جريمة انفجار 4 أغسطس/آب؟
من جانبه، يعتبر الخبير الإستراتيجي والعميد المتقاعد في الجيش اللبناني إلياس حنا أنه بعد مضي أكثر من شهر على انفجار المرفأ لا يمكن لأي حريق أن يطمس الأدلة "لأن لجان التحقيق المحلية وفرق المحققين الدوليين من خبراء فرنسيين وأجانب قامت بمسح المنطقة المحيطة في مكان الانفجار، وأخذت كل الأدلة الجنائية التي تحتاج إليها للتحقيق".
وقال حنا للجزيرة نت "بعد مضي نحو 40 يوما على انفجار المرفأ كان من المفترض إخلاؤه من المواد الخطرة، وإعادة مسح وجدولة وأرشفة كل ما يحتويه، والتمييز بين البضائع الخطرة والآمنة".
ورجح حنا فرضية أن يكون الحريق ناتجا عن "إهمال وخطأ بشري وانعدام المسؤولية وغياب المرجعية، ولا سيما أن التسلسل الزمني للحريق بعد الانفجار يؤكد عدم اتخاذ أي إجراءات احترازية تقي المرفأ حتى من سوء في التلحيم" على حد قوله.
في المقابل، يصف الكاتب والمحلل السياسي جوني منير حريق المرفأ بالغريب والمريب، ويعتبر أن تزامن حريقين بعد انفجار 4 أغسطس/آب الماضي خارج المنطق والمألوف.
وقال منير للجزيرة نت إن "من الواضح أن الأجهزة الأمنية والسلطات المسؤولة تميل لنظرية الاشتعال بسبب سوء في التلحيم، ولا تبحث جديا باحتمال أن يكون مفتعلا".
وكان من المفترض -بحسب منير- أن تخضع المنطقة المحيطة بالمرفأ لرقابة أمنية مشددة وإجراءات حماية استثنائية، و"هناك على الأقل مسؤولية معنوية مباشرة تقع على القيسي الذي اعترف بفوضى التخزين".
هل كشف الحريق ثغرات في مسار تحقيقات انفجار المرفأ؟
في هذا الوقت، يستمر المحقق العدلي القاضي فادي صوان باستكمال تحقيقاته في قضية انفجار المرفأ، وكان قد استمع إلى وزراء متعاقبين في الحكومات السابقة ولرئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، كما أصدر تباعا سلسلة مذكرات توقيفات وجاهية بحق أمنيين وضباط وإداريين ومسؤولين بعد الاستماع إلى إفادتهم، وفي طليعتهم مدير عام الجمارك بدري ظاهر، ومسؤول المخابرات في المرفأ العميد أنطوان سلوم، وغيرهما.
وبينما يشير منير إلى أن تحقيقات القاضي صوان تسلك مسارها الطبيعي، و"هو يتوعد في أوساطه بأن يصدر قراره الظني في نهاية العام الحالي" يشدد الباحث والأستاذ الجامعي في العدالة الجنائية عمر نشابة على ضرورة أن يبقى التحقيق سريا كي لا تلحق التسريبات الضرر بمساره.
ويرفض نشابة في حديث للجزيرة نت أن يدخل في فرضيات دوافع حريق المرفأ، ويركز على الثغرات التي تشوب مسار التحقيق، مشددا على ضرورة ربط حريق المرفأ بانفجاره "لأن المصادفة مشبوهة، وقد وقع الحريق على بعد 700 متر من مكان وقوع انفجار 4 أغسطس/آب".
وعن ثغرات التحقيق، يقول نشابة إنه رغم استماع المحقق العدلي للرئيس دياب والوزراء المتعاقبين فإن هذا الاستماع يبدو شكليا، لأنه لا يستطيع أخذ أي إجراء بحقهم باعتبار أن الأمر من اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهو غير مفعل.
ومع ذلك "قد يفيد الاستماع على مستوى جمع المعلومات في القضية الأساسية المرتبطة بالحوادث الآنية قبل وقوع الانفجار، كالمتعلقة بالإشراف على العنابر وإدارتها، وآلية تنظيم الأمن والإجراءات الجمركية داخل المرفأ".
ويرى نشابة أن هيكلة التحقيق قائمة وممنهجة، لكن المطلوب تسريع وتيرته، "أما حريق 10 سبتمبر/أيلول فقد كشف عن الثغرة الكبرى من حالة من عدم الانتظام والفوضى في محيط مكان الانفجار".
وأضاف "كانت ضخامة انفجار المرفأ تستدعي أن تكون للمنطقة المحيطة به أهمية خاصة، ولا سيما أن قوة عصفه تضع احتمال رشق الأغراض الموجودة في العنبر إلى دائرة أوسع من 700 متر، مما يكشف ثغرة واضحة في آلية تحديد مسرح الجريمة".
هل يبقى مفهوم أن مسرح الجريمة قائم بعد مرور أكثر من شهر؟
يذكّر نشابة بمسرح جريمة اغتيال الحريري عام 2005 والذي بقي مطوقا حتى يناير/كانون الثاني 2006، أما مسرح جريمة انفجار المرفأ فهو "مسألة أغراض وموجودات من التربة والحديد والبقايا المتطايرة من المستودعات والتي بلغت دائرة أوسع من 700 متر".
ويعتبر نشابة أن الحريق ضاعف المسؤولية على المحقق العدلي، ووسع رقعة الاتهامات والمسؤوليات التي تتشعب بين إدارية وعسكرية ولوجستية وجمركية، والتي عكست فشلا في اتباع المعايير الدولية للتخزين، على حد قوله.
وفي سياق آخر، أوضح الأمين العام للصليب الأحمر اللبناني جورج كتانة للجزيرة نت أنه رغم عدم سقوط ضحايا في حريق المرفأ "أصدرنا توجيهات للمواطنين حفاظا على سلامتهم العامة، بسبب انبعاثات السموم الخطرة الناتجة عن الدخان الأسود الذي خيم على سماء بيروت".
وبعد الحريق -الذي يشكك معظم اللبنانيين بدوافعه- هل ثمة أمل بالتحقيقات؟ أجاب نشابة بأن "الفرصة الوحيدة للقاضي صوان بالوصول إلى الحقيقة هي بالتحرر من أي ضغط سياسي، والعمل باستقلالية، والاستعانة بالخبرات اللازمة، وإلا لن ينجح".