كل شيء مكانه، وكل قضية على حالها منذ زمن بعيد وأما الملفات فهي كما هي مغلقة ، مكومة فوق بعضها ، تم ركنها في زاوية بعيدة، خوفا من الزائر الجديد، تغطيها الغبار ، لا يوجد من يزيل عنها غبرتها، او يفتح صفحاتها ويقلب اوراقها ، ويقرأ أسرارها ، وما تخفيه بين سطورها.
فالكل يرفع شعار "وانا مالي" ، طالبا برفع الاكوام من طريقه ووضعها فوق الرفوف لحين ما يأتي وقتها ، او يسمح له الوقت لقراءتها ومراجعتها، لنسفها طبعا وإلغاء كل ما جاء فيها ، وكأن من وضعها قبله خصما له ، يعملون بكيدية وندية لا مكملين لبعض لتحقيق غاية وهدف واحد .
وكأن كل واحد فيهم يعمل في جزيرة منفصلة عن الأخرى، كل همهم افشال من سبقهم وتحميلهم كل الاخطاء وأنهم سبب ما نحن فيه الآن ، لينسفوا كل ما حققوه وانجزوه - إذا كان فيه انجاز طبعا - وأنهم سبب ما نحن فيه ، ليبدأوا من جديد دون اي اعتبار للوقت او قيمته بغض النظر عما تم صرفه من أموال ونفقات حتى وصل الى هذه المرحلة.
هذا هو واقع حكوماتنا فما ان تأتي واحدة تلعن التي قبلها وتبدأ بكشف عورتها وأخطاءها ، ونشر غسيلها ، وان كل ما كنا نسمعه عبارة عن ذر للرمال في العيون او استغفال وضحك على "اللحى" .
كثيرة هي الخطط ، ومثلها او ازيد هي الوعود والتحليق في سراب الآمال ، وتقديم سلال لا بل أكوام من التطلعات ، لو تحقق بعضها او قليل منها، لكان وضعنا أفضل، ولكنا في مكان غير هذا ، يغلفه الدفيء الذي يقينا من لسعة البرد وعتمة المكان وظلمته ، تضيء جوانبه إنجازات وينير دربه مستقبل خال من الخوف وعدم اليقين .
وكأنها لعنة اصابتنا منذ زمن بعيد او تعويذة حطت علينا ومنعت تقدمنا وسيرنا الى الامام ، او حالة من الدوار فرضت علينا ان نبقى ندور حول أنفسنا ولا نرى الا نفس المكان والجدران نفسها ، نهرب من الجدار الى الجدار ومن المكان الى المكان ، يلاحقك كظلك أينما ذهبت او حاولت الفرار..
فلا جديد يذكر ، ولا امل يلوح في الافق ، حتى بصيص الأمل والضوء الخافت القادم من بعيد الذي كان يؤنس وحدتنا ، تلاشى شيئا فشيئا ، اضعناه ولم نعد نراه .
لنصبح بعدها نعيش في عتمة وظلمة، وحالة أقرب الى الاستسلام واليأس، ننتظر مصيرنا المحتوم ، دون ان نبذل اي جهد، او نحاول مجرد محاولة للتغيير او البحث عن ضوء اخر نستأنس به وحدتنا وينز ع عنا خوفنا.
وفي زحمة اليأس وسوق الخوف تاه الجميع ،فاقدا كل ما بحوزته فوق ما فقد ( بضم الفاء ) منه من قبل ، لا بل حتى أنه نسي اسمه او من يكون ، ولا يعرف اين هو ولا حتى لمن هذا المكان ، بعد ان فقد بوصلته واضاع محفظته، وما تحتفظ به من هوية و وثائق شخصيه.